يوسف قطينة - النجاح الإخباري - القدس توأم مكة المكرمة، والأقصى المبارك توأم الكعبة المشرفة وذلك بقرار رباني قرره الله عز وعلا- قبل اكثر من اربعة عشر قرنا من الزمان وذلك حين جعل المسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى، التي ظل الرسول-صلى الله عليه وسلم-وصحبه الكرام ستة عشر شهراً يستقبلونها في صلاتهم قبل ان يستجيب المولى -سبحانه وتعالى -لرغبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، بتحويل القبلة من المسجد الاقصى الى الكعبة المشرفة «قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره» البقرة ١٤٤.

وفي ذات الإطار، فإن الحق «عزوجل» ربط بين المسجد الاقصى والمسجد الحرام، حينما امر جبريل «عليه السلام» ان يطير رسوله الاكرم-صلى الله عليه وسلم-من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، حيث أسرى به ليلاً، ثم عرج به الى السموات العلى، الى سدرة المنتهى، وذلك في معجزة الاسراء والمعراج، وقد تصدرت هذه المعجزة الربانية الآية الأولى من سورة «الإسراء» ولم تكن تسمية السورة كاملة على طولها باسم هذه الحادثة اعتباطاً أو صدفة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما كانت حكمة الهية جليلة، وهي أن الأقصى وما حوله أرض إسلامية مباركة، وهو ثالث قدس اقداس المسلمين، وأنه صنو المسجد الحرام في مكة المكرمة، كما ان رسولنا الأكرم-صلى الله عليه وسلم-اكد هذه الحقيقة الربانية في عدة أحاديث شريفة، إذ ربط بين المسجد الاقصى المبارك والمسجد الحرام ومسجده النبوي الشريف في المدينة المنورة، ولعل اشهر هذه الاحاديث، قوله-صلى الله عليه وسلم:-لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول-صلى الله عليه وسلم، ومسجد الاقصى، وهذا حديث صحيح-رواه الامامان البخاري ومسلم، عن الصحابي الجليل ابي هريرة-رضي الله عنه-.

واذا كان التفريط بشبر واحد من أية بقعة إسلامية محرم شرعاً، فكيف بالتفريط بواحد من أقدس المقدسات الاسلامية؟! وقد أجمع مؤرخو المسلمين منذ العصور الإسلامية، أن مقياس حال المسلمين: من قوة أو ضعف، ومن عزة أو ذلة، إنما يتمثل في وضع المسجد الأقصى، فاذا كان المسجد المبارك عزيزاً كريماً، لا تنتهك حرمته، ولا يعتدى على قدسيته، فذلك يعكس قوة المسلمين وعزتهم ووحدتهم ومهابتهم بين أمم الارض. واذا كان المسجد المبارك محتلاً تنتهك حرماته، وتدنس قدسيته، فذلك يشير الى هوان المسلمين وذلتهم وانتفاء مهابتهم بين أمم الأرض.

وقد وقع المسجد الأقصى المبارك أسيراً في ايدي الغزاة الافرنجة، الصليبيين الذين ارتكبوا في ساحاته مجزرة رهيبة، ضد المدنيين المسلمين من نساء وأطفال وشيوخ، الذين التجأوا اليه فراراً بأنفسهم من القتل ظناً منهم بأن أولئك الغزاة القتلة قد يحترمون الأماكن المقدسة، ولم يكتف أولئك القتلة البرابرة بتلك المذبحة، بل جعلوا جزءاً من المسجد المبارك كنيسة، وجزءاً ثانياً اسطبلاً لخيولهم، وجزءاً ثالثاً مستودعاً لأسلحتهم.

وظل الشعراء المسلمون يحثون على تحرير المسجد المبارك من أيدي المحتلين الفرنجة، وعندما بزغ كوكب القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي في سماء العالم الإسلامي، بعد العديد من الإنتصارات على الغزاة الفرنجة، وبعد أن حرر مدينة حلب من الملك الفاسد الصالح اسماعيل، خاطبه الشاعر والفقيه والخطيب ابن الزكي البغدادي بقصيدة تنبأ في أحد أبياتها أن صلاح الدين سيفتح القدس في شهر رجب. حيث قال:

وفتحكم حلباً بالصيف في صفر

مبشر بافتتاح القدس في رجب

وقد تحققت نبوءة هذا الشاعر الفقيه، اذ بعد أربعة أعوام، وليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب من عام ٥٨٣ للهجرة النبوية الموافقة لعام ١١٨٧ من الميلاد، دخل صلاح المسجد الاقصى فاتحاً، وهكذا عادت القدس ومسجدها المبارك الى حوزة المسلمين مجدداً، وعادت مآذن المسجد الاقصى تصدح بالاذان من جديد.

وفي الخامس من حزيران من سنة ١٩٦٧ وقع المسجد الأقصى المبارك تحت الاحتلال الاسرائيلي، ولم يخف المحتلون مطامعهم في المسجد، مستندين الى أساطير واهية، وروايات مكذوبة عن أن المسجد أقيم على أنقاض هيكلهم المزعوم، وفي أعقاب توقيع اسرائيل ما سمّي زوراً وبهتاناً بمعاهدات سلام مع دول عربية، ازدادت المطامع في المسجد الأقصى المبارك، وظهرت جمعيات يهودية متطرفة تسعى حثيثاً لهدم المسجد المبارك، واقامة الهيكل المزعوم محله، وتتالت انتهاكاته، على يدا اولئك المتطرفين، الى حد الصلاة، وعقد مراسيم زواج في ساحاته وباحاته. وأصدروا ملصقات للحرم القدسي الشريف، اختفى فيها المسجد وحل مكانه الهيكل المزعوم، وجرى تقسيم المسجد زمانياً بين المسلمين واليهود، وجار التخطيط لتقسيمه مكانياً، لولا دفاع المرابطين من ابناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، والإخوة داخل الخط الأخضر، الذين يدافعون عنه بلحمهم الحي وصدروهم العارية، الا من الإيمان بقدسيته، وكونه حكراً على المسلمين وحدهم لا ينازعهم في ذلك الحق الا كل معتد أثيم.

وقد تخلت معظم الأنظمة العربية والاسلامية اليوم عن المسجد الأقصى المبارك، ولم تكتف بترك المقدسيين وحيدين يدافعون عن ثالث أقداس المسلمين، ولم تقف عند حد عدم دعم المقدسيين، بل أخذ بعض تلك الأنظمة يدعو الفلسطينيين الى التخلي عن القدس وعن مسجدها المبارك، والقبول بضاحية أبو ديس عاصمة لهم، او القبول بمدينة رام الله عاصمة لهم، مستخدمين في ذلك سياسة العصا والجزرة، فإن رفضوا ذلك، فسيعاقبون بحجب المساعدات المالية عنهم، واذا رضوا فلهم مليارات الدولارات، ولكن أنّى ان يقبل المقدسيون بخاصة والفلسطينيون بعامة بالتخلي عن قدسهم وأقصاهم، وهم الأمناء عليهما، وهم المرابطون في بيت القدس وأكناف بيت المقدس.

وقد وصل الأمر بقادة عرب درجة التنسيق مع الرئيس الأميركي ترامب لفرض «صفقة القرن» على الشعب الفلسطيني، التي عمادها تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، والتخلي عن القدس وحق العودة، الذي هو العنوان الأساس للنكبة الفلسطينية، وقد أطلع ترامب أولئك القادة العرب على تلك الصفقة قبل أن يعلنها على الملأ، وتحمس العديد منهم لها، وذلك ابتغاء مرضاة ترامب، وسكوته عن انتهاكاتهم تجاه شعوبهم، واستئثارهم بثروات تلك الشعوب الطائلة.

وقد بلغ الحد ببعضهم ان دفع المليارات من الدولارات في صورة رشى لترامب للفوز بتأييده، ومساعدتهم في تثبيت حكمهم.

بل بلغ بعض القادة العرب حداً الى التنسيق الكامل مع اسرائيل، والتماهي معها ضد بلدان عربية، باعتبار ذلك «حقاً مشروعاً للدفاع عن نفسها»، فقتل اسرائيل عشرات الفلسطينيين من المتظاهرين السلميين في قطاع غزة، في مسيرات العودة، من أطفال وفتيات وشيوخ وشباب، يعدونه «حقاً مشروعاً ودفاعاً عن نفسها».

وذهب بعض القادة العرب أكثر من ذلك بالقول: «إن للاسرائيليين الحق في العيش بسلام على أرضهم»، وأضاف قائلاً: ان بلاده تتقاسم المصالح مع اسرائيل، وهكذا يثبت هذا القائد العربي مزاعم اسرائيل في حقهم وبيهودية اسرائيل، ويتحدث عن مصالح مشتركة مع اسرائيل، متجاهلاً اعتداءات اسرائيل على الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة، ومتجاهلاً احتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية، وتهويدها القدس، وانتهاكاتها اليومية للمسجد الأقصى المبارك، وسعيها الى تقسيمه مكانياً بعد أن نجحت في تقسيمه زمانياً.

لقد غض معظم القادة العرب الطرف عن القدس ومسجدها الأقصى المبارك، وعن حصار قطاع غزة، وقتل جيش الاحتلال الاسرائيلي المتظاهرين السلميين في قطاع غزة بدم بارد، ولم يقوموا بدعم الشعب الفلسطيني في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، بل سارعوا الى التطبيع معها، وارسلوا وفوداً رياضية للمشاركة في سباق دراجات في القدس، اعترافاً منهم بضم اسرائيل الى القدس، وأصبحت الوفود الاسرائىلية تزور عواصم عربية، وتشارك في سباقات رياضية وندوات سياسية وأمنية، هذا عدا عن التعاون الأمني ضد ايران.

إذ لم تعد اسرائيل اليوم، عند العديد من القادة العرب، عدواً يحتل أراضي عربية، وفي مقدمتها القدس ومسجدها المبارك، بل أصبحت حليفاً معها ضد «العدو» الايراني الذي يتهمونه بالسعي لامتلاك سلاح نووي، في حين يغضون الطرف عن امتلاك اسرائيل مئتي رأس نووي.

لا شك ان الرئيس ترامب وإدارته التي تضم غلاة اليمين المتطرف من المحافظين الجدد، يسعون الى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وشطبها مرة واحدة، وذلك بعد قرن ونيّف من نشوئها، ولذلك لم يسم ترامب خطته هذه "صفقة القرن" مصادفة، بل عن عمد، لأنه يريد حل هذه القضية الممتدة منذ أكثر من قرن .

أن تتآمر الولايات المتحدة على فلسطين أمر عادي، لكن أن يتواطأ قادة عرب معها في ذلك، من خلال تأييد صفقة القرن وفي مقدمة بنودها التخلي عن القدس ومسجدها الأقصى وحق العودة، فهذا هو الأمر المستنكر والمرفوض، وهذا التواطؤ لم يعد سراً، بل خرج الى العلن، وقد أكد ذلك الشيخ حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر السابق الذي لعب دوراً رئيساً فيما سمي بـ " الربيع العربي" والذي أسفر عن تدمير سورية والعراق وليبيا، وذلك حين قال في تصريح له مؤخرا: " إن "صفقة القرن" تنفذ خطوة وبدعم وتأييد دول عربية كبرى، وتوجه في تغريدة له على "تويتر" بعد نقل السفارة الأميركية الى القدس، الى هذه الدول العربية متسائلاً : " " بالله عليكم، ما هو الثمن؟".

وأجاب الشيخ حمد على تساؤله قائلاً: " علما انه يفترض الا ثمن يساوي التفريط في المقدسات والحقوق الوطنية" وأضاف قائلاً : " للأسف دخلنا في نفق مظلم في عالمنا العربي، ليس في هذه القضية فقط - قضية فلسطين - لكن، في كل قضايانا الدولية والمحلية".

ان الذين يعرضون القدس واقصاها في سوق النخاسة الأميركية مقابل ثمن بخس :" كرسي الحكم" بتأييد من ترامب وادارته واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ، لا يعلمون أن التفريط في القدس وأقصاها المبارك هو تفريط بمكة المكرمة وكعبتها، انهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا شك ان سعيهم ذلك مآله البوار والكساد.