علي جرادات - النجاح الإخباري - أقامت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، عشية حلول الذكرى ال70 لنكبة فلسطين، احتفالاً بهيجاً، حضره وفد أمريكي رفيع، بمناسبة افتتاح مقر سفارة أمريكا في القدس المحتلة، كأن مصير هذه المدينة الفلسطينية العربية المُقدسة العريقة المحتلة قد حُسم إلى غير رجعة؛ بينما ظل سؤال اليوم التالي للاحتفال، على حاله مفتوحاً، موجعاً، حارقاً، وبلا إجابة، وهو: ماذا بشأن وجود، وتكاثر، ومقاومة 300 ألف من المقدسيين هم سكان وأصحاب المدينة الأصليين؟

أما ارتكاب جيش الاحتلال، في يوم افتتاح السفارة الأمريكية، واحدة من أبشع مجازر إسرائيل، وما أكثرها، بحق مئات آلاف المتظاهرين السلميين في قطاع غزة، فلم تمنع استمرار مسيرات العودة الكبرى، بل وصبت الزيت على نار المواجهة السياسية الشعبية المستمرة مع الاحتلال، سواء في غزة، أو في الضفة، والقدس، و»مناطق 48»، عدا تفجير غضب اللاجئين في الشتات. ولا عجب. فسبعون عاماً من النكبة المستمرة، بما تخللها من مؤامرات سياسية كثيرة، ومما لا نظير له في التاريخ المعاصر من المذابح والمجازر، وحروب الإبادة، والتدمير، والتطهير العرقي المُخطط، لم تدفع الشعب الفلسطيني إلى التسليم، أو الاستسلام، ولا أقعدته عن المقاومة المتواصلة، بأشكالها المختلفة، وأجيالها المتعاقبة، وعناوينها المتغيرة، مصداقاً لنبوءة القائد الوطني الكبير الشهيد عبد القادر الحسيني، حيث قال عشية رحيله عام 47: «سوف يقاتل الشعب الفلسطيني، جيلاً بعد جيل، حتى تحرير فلسطين».

المقصود من الكلام أعلاه ليس التقليل من شأن التحديات والمخاطر الكبيرة التي تحملها خطة «صفقة القرن» الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، بل التأكيد، كما ينبغي، على أن تحديات ومخاطر هذه الخطة، إنما تحمل في ثناياها، أيضاً، استنفار كامن طاقات الشعب الفلسطيني، واستفزاز قواه الحية، وتوتير قوسه، مصداقاً لما أثبتته تجربة قرْن من الصراع، حيث ظل التراجعُ يستدعي التقدم، والجزْرُ يستحث المدَّ، اتصالاً بأن «كل شيء ينطوي على نقيضه».

لقد قيل: «كل نظام يعيش مأزقه حتى ينتج حفار قبره». وإسرائيل التي تحتفي هذه الأيام بمناسبة مرور 70 عاماً على إنشائها، بالقوة، على أرض فلسطين المأهولة، وعلى حساب شعبها العربي العريق، ما زالت، كما وُلِدت، تعيش مأزق نظامها الاستعماري الاستيطاني العنصري الإلغائي الإحلالي، القائم على فرضية أن الحروب وفرض الحقائق على الأرض، تخلق واقعاً سرعان ما يُعترف به. قال يغال آلون، (وهو أحد أكثر قادة الاحتلال تعلقاً بهذه الفرضية الخائبة)، بعد شهر على هزيمة 67: «لو أن إسرائيل سمحت لجيشها عام 49، باحتلال كامل الضفة الغربية لما كان يخطر ببال أحد الآن أن يدّعي ضد حق إسرائيل بالبقاء في المدينة القديمة، أو الخليل، أو نابلس». وفي السياق يقول أرسكين شليدر، في كتابه (تهويد فلسطين): «إن الاستيلاء على الأرض وطرد السكان ليس ناجماً عن طبع شرير عند اليهود، بل هو مِن مقتضيات إقامة الكيان اليهودي الذي ما كان ليقوم إلا بأرض أكثر، وعرب أقل».

أما جذر مأزق إسرائيل الدائم، وسؤالها الموجع المفتوح، فنجده في ما أعلنه، عام 1919، (بعد عامين على صدور «وعد بلفور»)، حاييم وايزمان رئيس «المنظمة الصهيونية العالمية»، آنذاك: «عندما أقول وطناً قومياً يهودياً أعني خلق أوضاع تسمح بإدخال العدد الوفير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، بحيث تصبح يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية، وأمريكا أميركية». هذا يعني أن خطة «صفقة القرن» الأمريكية، إن هي إلا محاولة فاشلة لفرض حلٍ يتبنى كامل ما أراده مؤسسو «المنظمة»، ونفذته، بالقوة، وبدعم استعماري «غربي» مطلق، حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ إنشائها.

بل منذ إحياء «الحركة الصهيونية» والدول الاستعمارية «الغربية» ل»وعد إلهي» مزعوم لتمرير «وعدٍ دنيوي» استعماري» مشؤوم أعطى طائفة دينية يتوزع اتباعها، كما اتباع كل طائفة دينية، على دول قومية مختلفة، مكانة شعب يستحق دولة، بينما أنكر وجود شعب قائم وحدت «المواطنة» مكوناته، كأنه شعب زائد، أو مجرد طوائف تستحق التمتع ب»حقوق مدنية ودينية». وبالنص يقول «وعد بلفور»: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين....». هنا نعثر على مصدر هذا الصراع الوجودي الذي لن تحله خطة «صفقة القرن»، بل تعمقه ومأزق إسرائيل البنيوي وسؤالها المفتوح.

نقلا عن "الخليج"