النجاح الإخباري - 22 عاماً مرت على انعقاد آخر جلسة عادية للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة العام 1996، وهو المجلس الأعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. بعد مخاض طويل تنعقد اليوم، الثلاثون من شهر نيسان الجاري، أولى جلسات الدورة الاعتيادية ألـ 23 للمجلس، لمواجهة تحديات جسام تعصف بمستقبل القضية الفلسطينية؛ مجلسٌ تشريعي معطل منذ وقوع الانقسام الفلسطيني، موت سريري للمصالحة الوطنية، وصفعة العصر الأميركية المرتقبة، والتي ستولد ميتة، حيث أكدت القيادة الفلسطينية على لسان الرئيس محمود عباس أبو مازن بأنها لن تتعاطى معها مهما كلف الأمر أو كانت النتائج، ويتضح ذلك من تزايد وتيرة حدة خطابات رأس الدبلوماسية الفلسطينية، فقد تجاوز ذلك الإعلان الأسود كل الخطوط الحمراء.

تسعى القيادة الفلسطينية من خلال عقد المجلس الوطني إلى وضع إستراتيجية جديدة لمواجهة القرار الأميركي، وسط خلافات في وجهات النظر حول تاريخ ومكان عقده، أو ما يتذرع به البعض من عدم التوصل إلى إجماع وطني حول العديد من القضايا المحورية على الساحة الفلسطينية. ونقول لمن يتمترس خلف هذه الإدعاءات: ألم يكن مُضي عقد من الزمن على الانقسام الداخلي الفلسطيني يكفي لرأب الصدع والتوصل إلى تفاهمات مشتركة حول كافة القضايا العالقة؟ هل نحتاج إلى عقود أخرى تنقضي قبل اجتماع "الوطني"، وهل من ضمانة لتحقيق ذلك؟ وهل عامل الزمن وتسارع الأحداث ستمهلنا ذلك الوقت. أليس الأولى أن ينعقد الوطني لحلحلة كافة القضايا والوصول إلى التفاهمات المرجوة لخدمة مشروعنا الوطني؟

الحقيقة المرة أن هنالك من انتفع وينتفع من حالة اللا صُلح، حيث تعلو المصالح الذاتية والحزبية الضيقة على مصالح الوطن العليا. إننا نعيش زمناً نفتقد فيه الكثيرين من قادة الفصائل المؤسسين الذين كان يجمعهم الهم الوطني رغم خلافاتهم وتبايناتهم الفكرية العميقة، هؤلاء الذين لم يسمحوا للخصومة أن تؤثر على المسار الوطني الجامع؛ لأنهم كانوا يجدون ما يلتقون عليه رغم تباعداتهم السياسية أحيانا.

نستذكر جميعاً حادثة قاعة اليونسكو في العاصمة اللبنانية بيروت التي خلدها تاريخ قضيتنا، عندما دعي الطبيب الثائر جورج حبش لإلقاء كلمة الشعب الفلسطيني في حضور قائد الثورة الفلسطينية المعاصرة، الزعيم الخالد ياسر عرفات، في محاولةٍ لضرب الخلاف الداخلي بين فصيلين مركزيين في منظمة التحرير الفلسطينية، فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وبرغم غضب أبو عمار، همس لمساعديه "لن أسجّل في تاريخي أنني خرجت من قاعة أثناء كلمة حكيم الثورة جورج حبش"، ليأتي الموقف المُشرف من قبل الحكيم حينما اعتلى المنبر، وقال: "إن كلمة الثورة الفلسطينية، إن كلمة الشعب الفلسطيني، إن كلمة الثورات العربية المعاصرة وضمير الثورات، لا يلقيها إلا أخي ورفيق دربي القائد العام للثورة الفلسطينية ياسر عرفات"، إنه رجلٌ لم يطلق عليه لقب "حكيم الثورة" عبثا، حيث نزع بحكمته وحرصه على القرار الواحد فتيل أزمة محتملة، وليتم العناق بين القائدين الخالدين وسط تصفيق الحضور وهتافهم "تحيا الثورة... وحدة وحدة وطنية". كما لا يغيب عني القول المأثور للشهيد الشيخ أحمد ياسين "لتذهب كل حركة حماس ولا تسقط قطرة دم واحدة"، ونستذكر علاقته المتميزة بالرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي كان يُنظر إليه على أنه صمام الوحدة الوطنية والأب الروحي لجميع الفلسطينين.

إن المصلحة الوطنية العليا تستوجب الحفاظ على هذا التاريخ المشرف لقضيتنا الذي خطه لنا قادتنا الكبار بحروف من دمٍ ونور وأصبح مورثاً، ومنارةً تنير درب الحرية لأجيالنا المتعاقبة، وفي هذا السياق، جاء موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من عقد الجلسة الاعتيادية الحالية للمجلس الوطني الفلسطيني؛ فرغم مقاطعتها لها، إلا أنها أكدت من جديد حرصها على وحدانية تمثيل منظمة التحرير للكل الفلسطيني، والحفاظ على منجزاتها السياسية والدبلوماسية التي حققتها عبر عقود خلت على الساحتين العربية والدولية، برفضها إيجاد أي جسم مواز. وتناغماً مع هذا الحس الوطني والقدر العالي من المسؤولية الجمعية أعلنت كذلك حركة الجهاد الإسلامي مقاطعتها لأية إجتماعات تزامنية لعقد الوطني منعاً للمزيد من الفرقة والتشرذم في الحالة السياسية الفلسطينية الراهنة.

والحال يتطلب من قادة سائر التنظيمات والفصائل الأخرى أن تحذو هذا الحذو في تجنيب فلسطين وشعبها ومنجزات شهدائها وأسراها أية ممارسات من شأنها التساوق مع المخططات الأمريكية-الإسرائيلية في إطار ما تسمى بـ"صفقة القرن" الرامية إلى تصفية القضية والتنكر للحقوق التاريخية لشعبنا التي أقرتها المواثيق والمعاهدات الدولية، والتأكيد على أن التناقض يجب أن يكون فقط مع إسرائيل وليس بين الفلسطينيين، علماً أن كافة هذه المخططات ستتحطم على صخرة وعي شعبنا، تماماً كما سابقاتها التي فشلت فشلاً ذريعاً في شق وحدة منظمة التحرير الفلسطينية، أو المساس بوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وما حققته له من إنجازات.

من المنتظر أن يضخ المجلس الوطني دماءً جديدة وكفاءات شابة مؤهلة وقادرة على إحداث تغيير في إستراتيجيات وآليات العمل الوطني بكل جرأة ودراية ومسؤولية بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة، لتضع على سلم أولوياتها إنهاء كافة أشكال الانقسام، وتعمل على لمّ الشمل، وتحفظ الدم الفلسطيني وتعلو بقدسيته فوق جميع المكاسب والمغريات. وفي هذه الأجواء يجب التنبه والتصدي الجمعي لمحاولات التشهير، مشبوهة المصادر والأهداف، التي تحاول النيل من قامات وطنية ومجتمعية معروفة بانتمائها وحرصها على تحقيق المصلحة الوطنية العليا وبناء دولة المؤسسات والقانون، بغرض إبعادها عن دوائر ومؤسسات صنع القرار الفلسطيني ووضع العراقيل في طريق تحقيق التغير المطلوب في النهج والأداء.