عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - عندما نتأمل المشهد السياسي في يوم الاستقلال لا نستطيع تجاهل الوقائع القائمة على الارض.
استيطان في كل مكان، تهويد على قدم وساق، حصار وافقار.
قوانين مغرقة وغير مسبوقة في العنصرية، مطاردة للشعب الفلسطيني في كل بقعة من الارض وقضم ومصادرة. تنافس على قتلنا وسباق محموم على الفتك بنا.
أما في المحيط فحدث ولا حرج.
مجتمعات بكاملها تأكل بعضها بعضاً، وحروب فيها من التوحش ما يجعل القرواوسطية حقبة معتدلة.
حروب للطوائف والاعراق والاديان واغراق في التجرّد من الانسانية والعقل.
«عرباً اطاعوا رومهم، عرباً وضاعوا»، وعجماً ينهشون جسد امة لم تتعلم بعد ابجدية الدفاع عن حاضرها.
أمةٌ تغرق في ماضٍ لا يفعل غير القطيعة مع المستقبل، وشعوب تساق الى الاختيار بين خيارين:
إما التشرد واللجوء أو الموت جوعاً وفقراً، غدراً وقهراً.
كيف للفلسطيني أن يرى في «الاستقلال» أملاً، وكيف له ان يحلم (مجرد ان يحلم) بأن خلاصه من الاحتلال ممكن.
هذا المشهد واقعي وصور هذا المشهد ليست متخيلة.
بل ان هذه الصور لا تغطي كامل مساحة المشهد.
من أين للفلسطيني ان يشعر ان التضحيات التي قدمها حتى الآن، وتلك التي ما زال مستعداً لتقديمها ستفضي الى النصر والحرية والانعتاق؟؟
كل هذا واقعي، وكل هذا ماثل امامه مهما حاول ان يغمض عينيه.
لكن للحكاية مشهدها الآخر، فالجانب الآخر من القمر لا يُرى الا مع الدوران، المشهد الماثل حقيقي ولكن الجانب الآخر هو حقيقي ايضاً.
بل اننا (اذا امعنا النظر والتأمل) أمام دوران مستمر سينجم عنه انجلاء المشهد، وذلك عندما تتبدل الصور وتغيب وتتلاشى بعد ان تبهت كل الوانها وتفاصيلها المبهرة.
احاول هنا ان «أقارب» بين ما هو قائم وما هو قادم.
لا يمكن للمقاربة ان تكون متماسكة إلا أذا انطوت على بعض «الانصاف»، والا اذا تمت على مقارنة منصفة بين ماضيين وحاضرين ومستقبلين.
لا أزعم سلفاً ان مقالاً يمكن له أن يكثف مقارنة من هذا القبيل، لكن المقارنة ضرورية على كل حال، مهما كانت الصعوبة الكامنة فيها، لأن المسألة في النهاية ليست سوى المقارنة بين مشروعين. عندما حُسمت وجهة المشروع الصهيوني نحو فلسطين كان «التخلص» من يهود اوروبا حافزاً ومطلباً لظهور وتبلور القوميات فيها، وكان التوسع الاستعماري في الشرق يتطلب السيطرة وخططا متكاملة لاعادة هندسة المجتمعات، وكل ما تقتضيه من فوضى الجغرافيا. كان المشروع الصهيوني ليس فقط مواتيا لتلك السيطرة وانما كان معولاً رئيسياً لترسيخ وتكريس تلك السيطرة، وفي هذا الاطار وفي هذا السياق جاء ليكون عنصراً عضويا من عناصر المصالح الاستعمارية الذي تتوج في حينه بوعد بلفور وباتفاقيات سايكس - بيكو.
اذاً، بالمقارنة بين المشروع الصهيوني و«المشروع» الفلسطيني (الذي لم يكن قد خلق بعد) فإن المقارنة مجحفة وتكاد تكون مستحيلة.
وعندما وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني وحتى قيام الدولة الاسرائيلية كان العمل على ترسيخ قواعد المشروع الصهيوني متكاملاً ومنهاجيا ومتوافقاً عليه دوليا.
اما المشرق والعرب والشرق فلم يكن سوى ضعف وهشاشة ووهن وتمزق.
وعندما استكملت عناصر النكبة لم يكن لدى الشعب الفلسطيني اية امكانيات فعلية لا على المستوى الداخلي والوطني ولا على المستوى القومي والاقليمي، وطبعاً كان المستوى الدولي اما معاديا او مناوئاً او عاجزاً في شقه التحرري.
شُرد الشعب الفلسطيني وتبعثرت قواه وهويته، وجرى اما الوصاية عليها او الحاقها او نفيها ونزعها عنه عنوة.
مئات الآلاف منهم وجدوا أنفسهم في العراء، بدون مأوى واية مقدرات. تحول اللجوء الى احد اهم معالم الهوية. حتى ذلك الحين كانت اسرائيل قد تحولت الى محبوبة الغرب وربيبته المدللة.
وتنافست دول الغرب الرئيسية على من يدفع «التعويضات» ومن يسلح الدولة الجديدة، ومن يمدها بالسلاح النووي والى من يعتبرها قطعة اكثر اهمية من مقاطعات وولايات تلك البلدان.
فأين الانصاف في هذه المقارنة؟؟
ومع ذلك او بالاحرى مع كل ذلك قاوم الشعب الفلسطيني كامل فصول هذا الصراع بكل بطولة، وبكل الاشكال، وفي ظروف ليس فقط صعبة وانما مستحيلة بكل المقاييس، ولم تهزم ارادته ولا لانت عزائمه ولا فَتَر تصميمه على مقاومة المشروع الصهيوني.
وبمجرد ان تنفس الشعب الفلسطيني الصعداء (ولو قليلاً) في مرحلة المد الناصري والقومي امتشق سلاحه وبادر الى الامساك بزمام اموره، وفي مشهد اسطوري فجّر ثورته المعاصرة واجتاح كل حدود «الطوق» العربي معلناً التمرد على حالة «اللجوء» ايذاناً بالانبعاث الوطني الجديد.
وبالرغم من كل مصاعب الجغرافيا السياسية ووعورة تضاريسها، اسقط الشعب الفلسطيني المقولة التي كانت تتعامل مع قضيته الوطنية كحالة بؤس وشقاء ولجوء، وحولها في غضون سنوات قليلة الى قضية تحرر وطني عادلة وقوية، وتحولت بكائيات البؤس الى أناشيد للوطن والقضية والعودة والحقوق والأهداف.
لم يسبق في التاريخ المكتوب للبشرية ان استطاعت حركة تحرر وطني ان تجمع شعباً بكامله تحت راية واحدة في ظل كل ما أصابه من تشتت وبعثرة، وما تعرض له من ظلم، وما وضع أمامه ومن خلفه من عراقيل وموانع، وما سخر لإعاقة تطوره وانطلاقه من إمكانيات ومقدرات وما حيك ضده من مؤامرات.
في غضون سنوات ولكن بتضحيات جسيمة تحولت منظمة التحرير الفلسطينية الي مارد سياسي، وتحول الفدائي الى عملاق في كل أمته وفي كل الأمم وجرى التحول الاستراتيجي الاهم في حياة الشعب الفلسطيني من شعب مشرد الى شعب بطل، ومن قضية انسانية الى اعدل والى اهم واعلى قضية وطنية عرفتها البشرية المعاصرة.
بحنكة وتعقل ومثابرة مقترنة دائماً بفعل البطولة تحول الحلم الصهيوني الى كابوس اسمه الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ودارت وما زالت تدور معركة قاسية يفقد فيها المشروع الصهيوني يومياً ارضا وراء اخرى، ويحل في مكانه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
خسرت إسرائيل مرة والى الأبد معركة الرأي العام العالمي، وخسرت مرة والى الأبد المعركة الأخلاقية، وفقدت كل قدرة على المناورة وأصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بشيء الا بالقوة والعدوان وفي صدام مستمر مع القانون الدولي والشرعية الدولية، بل وفقدت القدرة على رؤية ما يحيط بها من أهوال ان هي استمرت على هذا المنوال. مقابل ذلك فإن البشرية كلها اليوم تنظر الى فلسطين كحقيقة سياسية راسخة مقابل النظر لإسرائيل كحقيقة عنصرية وعدوانية وكدولة مارقة وطاغية وراسخة ايضا.
المشروع الوطني الفلسطيني هو المستقبل والمشروع الصهيوني هو الماضي، واما الحاضر فهو المؤقت والمتغير والذي لن يصل الى نتيجته النهائية الا وفق مقدماته التاريخية وعناصره المكونة في الواقع الحالي المتحول.
المشروع الصهيوني بدأ بأرباح مكدسة ليس من صناعته ولا بجهوده الخاصة، وبدأ المشروع الفلسطيني بخسارات هائلة ليس من صنعه ولا بمسؤوليته.
وكل جهود إسرائيل للحفاظ على الأرباح والمكاسب منيت بالخسارة الكبيرة، وكل جهود فلسطين للتعويض عن تلك الخسائر تكللت دائماً بالربح. اذا كانت إسرائيل اصغر من المشروع الصهيوني فإن فلسطين اكبر من المشروع الوطني.
الصراع هو على محيط كل مشروع، وعلى دعائمه في هذا المحيط، وفي هذه المعادلة بالذات تكمن خسارة المشروع الصهيوني للمعركة الفاصلة.