ياسمين شملاوي - النجاح الإخباري -
في حديث صغير على طريق رام الله لأصوات متداخلة  ما بين حوارين متوازيين بين المذياع، والركاب والسائق الذي  يشكي من أبناءه الذين لا يرفعون رؤوسهم من الأجهزة المحمولة. الجميع يبدي  اهتماما غريبا بما قاله السائق، وأحد الركاب أكد على كلامه، واصفا أبناءه بـِ"المنسحرين" لأجهزتهم، وكذلك المرأة بجانبي التي قالت :"والله لو معمولهم عمل ما ملزقين بالأجهزة كل هالقد".
العجيب أن كل من شارك بالحديث كان غارسا رأسه بجهازه الخاص ويستجمع ما استطاع من كلام الركاب والسائق وحوار المذياع الذي يتحدث عن الانبهار بالغرب.
يقول المحاور ردا على سؤال المذيع أن  الأمة العربية توشك في مشرق العروبة ومغربها، أن تتم استقلال أقطارها السياسية. فضحك الراكب أبو أحمد وقال :" من وقت ما قالوا انه الجزائر تحررت واعترفوا بحقهم  في تقرير المصير، وما شفناه للاستقلال"
السائق الذي فُرض عليه إدارة الحوار يقاطعه :" إحنا بدائرة قلق كبيرة، وكل الانتكاسات ونوبات الرِدّة اللي شفناها بالوطن العربي بتأكد انه فش استقلال".
البرنامج في المذياع يتحدث بأن الدول العربية الوثابة الطامحة في تحقيق مثلها القومية المتلخصة في الحرية والتكتل واقامة العدالة الاجتماعية كاملة يجب أن تمر بمراحل  ثورية بناءة لتبعث من جديد.
أحد الركاب والذي يبدو عليه خلفيه تاجر قال:" مش لما يستقلوا اقتصاديا بالأول، رب العزة بجلاله حبا هالأرض من كل النعم، بالثروات الأرضية والمائية والمعادن الطبيعة وكل اشي، ولازم نحاول نبعد التبعيه عن اقتصادنا المنهوب."
السائق يقاطع مجددا :" بس بلا مفهومية قبل الاستقلال السياسي والاقتصادي، يجب أن يكون لكل أمة (استقلالها الفكري)، بس وإحنا مالنا يا جماعة؟!". 
وقلب السائق الى محطة أخرى، وبقيت كلمة الاستقلال الفكري تلمع في بالي، فالسائق المثقف البسيط، مالك لمفاتيح كبيرة، دعت لها  بالدرجة الأولى الفئات الواعية، التي لم تكتفي بالدعوة بمظاهر الاستقلال السياسي، ولم يغنيها الاستقلال الاقتصادي عن المطلب الأسمى. 
وهو ليس دعوى كما ترى بها بعض المجموعات المتطرفة للابتعاد عن العالم والتوقع عن ركب الإنسانية الصاعدة، بل انه وقبل كل شيء دعوة لتحقيق الذات، والشعور بالأصالة ورغبتك في الإسهام في التراث الإنساني على أساس من التكافؤ والمشاركة الصادقة بعيدا عن التخاذل والتبعية. 
وروح ((الاستقلال الفكري)) هذه تقوم بتجهيز الخميرة للشعور بالعزة والكرامة ومن المحبط أن تتخذ مظاهر التخلف المحسوس وتباين الأوضاع الاقتصادية لإبقاء التبعية. 
ومن الواضح أن بعض مخلفات عهود الاستعمار أو على الأدق ((التسلط )) تبقى في المجتمعات التي كانت خاضعة لمشيئة غيرها، والمشكلة إن أنسنا لهذه الآثار السلبية. 
الاستعمار تسلل إلى حياتنا في خفية منا، عن طريق الاستعمار التلفازي والانترنتي، والمشكلة فيه  أنه مسخ شخصيتنا وهدر كرامتنا القومية، وأصبحنا شرق أدنى ثم تم الاستعاضة من قبل الغرب عن الأدنى ((بالشرق الأوسط)) للقبول بإسرائيل على الأرض العربية. ولكن ما معنى هذا بالنسبة لنا.؟
وكيف نسمح للآخرين بإطلاق المسميات علينا؟ وهل من حقنا أن نطالب اليوم الأمريكيين والغرب بالنظرة العميقة لنا في حين أننا لا ننظر هكذا لأنفسنا.؟ وكم نحتاج لنفك عقدة الانبهار.؟
 وقاطع كم الأسئلة صوت أم كلثوم تغني:" تفيد بإيه ياندم ياندم".