د.عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - يصعب الحديث عن فلسطين دون الحديث عن ياسر عرفات، فالحكاية والبطل توأمان لا ينفصلان، ويصعب تخيل الحكاية دون الدور الأبرز للبطل. لا يشبه الأمر فقط التراجيديا ولا الملاحم الكبرى ولا غنائيات كبار الشعراء، كما لا يتقاطع فقط مع الموروث الحكائي الشعبي وقصص الأمهات لأطفالهن، ولا يتشابه مع التحليل المادي الممنطق لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا حول مكونات الشعوب وسيناريوهات الوجود، لكنه إلى جانب كل ذلك يشكل حالة نادرة تستحق التوقف والتأمل. فالشعب الفلسطيني رغم عراقة ارتباطه بأرضه التي سبقت وجود الأديان السماوية، والتي ربما تأسس صراع الأديان على الصراع عليها، ورغم تمظهر وطنيته مبكراً في مطالع القرن العشرين أمام التهديد الوجودي الذي مثله الاستيطان الاستعماري الإحلالي الصهيوني، خاصة بعد صدور وعد بلفور، إلا أن الوطنية الفلسطينية لم تأخذ شكلها الحقيقي إلا مع ياسر عرفات وثورته المعاصرة حتى لا يتم الانتقاص من إسهامات آباء الحركة الوطنية من مجايليه. 
لم تكن اللحظة التاريخية وحدها التي قدّمت عرفات على منصة الأحداث، بل وعي الرجل المبكر لمفهوم «الفلسطنة» القائم على ضرورة تأكيد الوطنية الفلسطينية بمكوناتها الهوياتية وبشكلها التمثيلي. والفلسطنة ليست نقيضاً للهويات الكبرى لكنها تأكيد لمحوريتها في تثبيت الحقوق. فالقصة ليست بوجود مطالب وتطلعات محددة لمجموعة من البشر، ولا هي بالسعي لتحقيق شروط الدولة (وأظن أن هذه مرحلة ثانية من تطور الوطنية الفلسطينية) وفكرة الأرض والشعب واحتكار العنف المشروع بعبارات فيبر الشهيرة، ولكن بما يجعل المجموعة البشرية شعباً. بهذا النسيج الذي يكون المصير المشترك جزءاً منه؛ لكنه الجزء اللفظي عن الهوية العميقة. هذا ما نجح ياسر عرفات في عمله. لذا فليس غريباً أن يشعر كل فلسطيني بأن ياسر عرفات صورة عنه، صورته في مرحلة معينة من عمره، وليس غريباً أن يكاد كل بيت من بيوت فلسطين قد التقط أحد ساكنيه صورة مع ياسر عرفات. تلك الصورة الأثيرة التي يتصافح فيها عرفات مع كل فرد من أبناء شعبه مثل صديقين قديمين يلتقيان بعد فراق طويل، أو وهو يقف إلى جانب المواطنين مبتسماً بطريقة ساحرة، يعرف أن الصورة ستدوم من بعده فتظل تلك الابتسامة دعوته إلى مواصلة الطريق. نجح عرفات في الوصول إلى سر الشخصية الفلسطينية وجوهر وكنه وجودها. إنه هذا الشعور الذي يلقي القبض علينا متلبسين بالإيمان المطلق بكل كلمة يقولها لنا وهو يعدنا بالدولة وبالعودة وبأن شبلاً من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتها سيرفع علم فلسطين خفاقاً فوق مآذن وكنائس القدس رغم وطأة الحال وشدة الواقع. إنها تلك الرغبة الدائمة في أن نكون ما نصبو إليه. فقط نجد كل ذلك في كل عبارة يقولها ياسر عرفات. الجبل الذي لا تهزه الريح والرجل الذي لم تقهره الصعاب هو صورة كل فلسطيني عن نفسه. حتى خصومه كلما مر الزمن يكتشفون أكثر كم كانوا يظلمون الرجل حين يخفون حبهم له. 
فقط تصوروا أن نصف من خرج إلى ساحة الكتيبة يوم السبت الماضي يبكون ياسر عرفات، ويعلنون تمسكهم بالفكرة الوطنية التي صاغها عرفات بدمه، كانوا حين استشهد عرفات لم يبلغوا السنوات الخمس من أعمارهم وعلى أكثر تقدير السبع . تلاميذ المدارس وطلاب وطالبات الثانوية، حتى طلبة الجامعة كانوا على أكثر تقدير لم يبلغوا العاشرة. وإن الشاب الذي جلس فوق عامود الإنارة مستذكراً عرفات لم يكن بكل الأحوال وقت استشهد عرفات قد دخل المدرسة. تخيلوا أن هؤلاء خرجوا ليبكوا عرفات مثل طفل يبكى والده، خرجوا ليقولوا لعرفات في قبره: ما زلنا نؤمن بك وبما كنت تقول، رغم أنهم لم يروه وكثير منهم كان في الكافولة حين رحل الرجل العظيم وانبهارهم بكارزميته الخاطفة لكل اختلاف معه. 
أدرك عرفات أن الصراع الديني على فلسطين ليس إلا مواصلة للصراعات القديمة في منطقة شهدت ولادة الأديان. لذا فإن المكون الوطني والحقوقي والهوياتي واستمرارية الوجود على الأرض هو ما يستحق الكفاح ويشرعنه. وهذا ليس بالعجيب إذا عرفنا أن كلمة «الله» في صيغتها المتداولة في تلك الأديان نبعت من معتقدات الكنعانيين العرب، سكان فلسطين الأوائل، وأن كل مشتقات الكلمة مأخوذة من إله الكنعانيين «إيل». لكن عرفات نقل كل هذا الصراع إلى منطقة أخرى يكون فيها التركيز على مكونات الهوية أشمل من حدود المعتقد. وعليه كان بذكاء يستعير بعض مكونات الهوية الكنعانية. لنلاحظ كيف استعار عبارة شعب الجبارين (في القرآن لا بد أن شعب الجبارين ليس شعباً يفتخر به، لأنه كان يحارب النبي موسى)، لكن فهم عرفات للوطنية أخذها من جانب مختلف تماماً، ليدلل على صلابة سكان الأرض وبسالتهم حتى حين يحاربون نبياً. ومن المؤكد أن مثل هذه الاستعارة لا تشكل تناقضاً مع الدين، إلا بطبعته المغلقة المتجمدة التي يفضلها البعض، بل هي تكامل وتنوع يشكل إثراءً له. لدى عرفات تعريف واسع للهوية يتجاوز الحدود الشوفينية لذا كان يصر على التنوع فكان اليهودي والمسيحي والمسلم دائماً في بوتقة المؤسسة الفلسطينية لأن فلسطين الهوية التي فهمها عرفات مكونة من هذه الاستمرارية وهذا التواصل والتكامل والتمازج بين المكونات الهوياتية المختلفة.  
عرفات أقنعنا أن الكف يمكن لها أن تناطح المخرز، وأن المستحيل كلمة لا تقع في قاموس الشعوب، وأن المستقبل ليس ما يرسم لك بل ما تسعى إليه. بذلك لم تكتمل الحكاية الفلسطينية مفتوحة النهاية رغم ذلك إلا بحضوره الأثير فيها، حتى بات من الصعب تخيل الحكاية دون وصول البطل. كأن الراوي كان سيتوقف كثيراً حتى يعطي فسحة من الوقت حتى يقفز البطل للمتن. وعرفات الذي فجّر ثورة مع رفاق دربه، ونقل اسم فلسطين معه أينما تنقل، حتى عز أن تجد في التاريخ أمثلة ترتبط فيها قضية باسم شخص، إلا في حالات نادرة. ظل وفياً لحلمه قابضاً على جمرة الأماني يفضل المطاردة والعزلة والحصار ثم الموت. عرفات الذي لم يتغن بحصاره ولا زاود على أحد في آلامه، ولم يتأوه وظلت ابتسامته نبراس كل المسحوقين، ظل واقفاً كالأشجار وفياً لكل تلك الشعارات التي حملها ورددتها خلفه الملايين. فالكف تناطح المخرز وتتغلب عليه، والمعصم أقوى من القيد والمستقبل أكثر بريقاً من ظلمة الحاضر، شاء من شاء وأبى من أبي و»اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة»، كما كان يردد ياسر عرفات.
يمكن لك أن تظن أن ياسر عرفات بما يمتلكه من مكانة في قلوب الفلسطينيين قديس أو ولي من أولياء الله له كراماته التي تتجلى في الطوفان البشري الكبير الذي يخرج كل عام إحياء لذكراه، وقلما وجد زعيم في العالم يظل الناس يخرجون له بمئات الآلاف في ذكراه كل عام حتى بعد مرور أكثر من عقد على رحيله المفجع. حتى بعد وفاته يظل عرفات يمد الشعب الفلسطيني بأكسجين الحياة والنضال، يبث فيهم من قبره روح العناد والتحمل فيخرجون بشيبهم وشبابهم وبقدهم وقديدهم، برجالهم ونسائهم من كافة أطياف قوس قزح السياسي يحيون ذكراه مثل موسم من المواسم الكبيرة المعهودة في فلسطين.

عن الأيام