محمد السعيد ادريس - النجاح الإخباري - جاءت استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية في وقت كانت قد أخذت تتجمع فيه عناصر مواجهة رافضة للقواعد والأسس التي كان يجري فرضها لتسوية الأزمة السورية من جانب روسيا وحلفائها: إيران والرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله (اللبناني)، عبر مسارين بديلين للتسوية الدولية لهذه الأزمة: مسار أستانة الذي هندسته روسيا بالتعاون مع إيران وتركيا كدولتين ضامنتين للنظام السوري من ناحية والفصائل المعارضة من ناحية أخرى.

والمسار الثاني هو الذي كانت موسكو تُعد لانعقاده في قاعدتها الجوية في سوريا «قاعدة حميميم» تحت مسمى «مؤتمر شعوب سوريا» ثم غيرت المكان وغيرت الاسم ليعقد في «منتجع سوتشي» تحت مسمى «مؤتمر الحوار الوطني».

كان واضحًا من هذه الترتيبات ومن الانتصارات التي يحققها الجيش السوري عسكريًا بدعم روسي وبدعم من القوى الحليفة خاصة في غوطة دمشق وفي دير الزور شمال سوريا على حساب تنظيم «داعش» الإرهابي أن روسيا وحلفاءها عازمون على فرض قواعد اللعبة التي تعبر عن واقع توازن القوى العسكري الحقيقي في سوريا، وأن مؤتمر «أستانة- 7» الذي عقد في العاصمة الكازاخستانية يومي 30 و31 أكتوبر الفائت، والمؤتمر السياسي الكبير الذي تعد له روسيا لينعقد في سوتشي أو في قاعدتها الجوية في حميميم بسوريا يستهدفان تكريس وفرض التسوية التي تعبر عن هذا الواقع، أي واقع انتصار النظام السوري وحلفائه، وسحب البساط من مؤتمر جنيف الدولي المقرر أن يعقد في 28 نوفمبر الحالي، أو على الأقل جعل هذا المؤتمر إطارًا دوليًا للتصديق على ما سيتم تحقيقه من نجاحات في المؤتمر الروسي البديل، ومن ثم إعلان انتصار روسيا والنظام السوري وحزب الله، بكل ما يمكن أن يحدثه هذا الإقرار من تداعيات هائلة على صعيد توازن القوى الإقليمى وبالذات المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية في ظل الإدراك ألإسرائيلي أن أي وجود عسكري ونفوذ سياسي قوي لإيران في سوريا يعد تهديًدا وجوديًّا للأمن القومي الإسرائيلي، وعلى صعيد المواجهة المتفجرة بين الولايات المتحدة وإيران التي صعًّدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الاتفاق ألنووي الموقًّع مع إيران من جانب الولايات المتحدة والقوى الدولية الكبرى، وعلى صعيد التوازنات السياسية داخل العديد من الدول العربية ومنها لبنان.

في الأسبوع الماضي وبالتحديد في 26 أكتوبر الفائت عبًّر وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون عن مؤشرات رفض أمريكي للإقرار بهذا الأمر الواقع وبقواعد هذه اللعبة التي تسعى موسكو إلى فرضها في سوريا، فعقب لقاء له مع المبعوث الأممي للأزمة السورية ستيفان دي ميستورا في جنيف قال تيلرسون إن بلاده «تريد أن تكون سوريا موحدة من دون وجود دور لبشار الأسد في الحكومة»، وإن «عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته والقضية الوحيدة (الآن) هي كيف يمكن تحقيق ذلك». سؤال تيلرسون حظي باهتمام كبير من جانب أوساط أمريكية وأخرى إسرائيلية وكذلك أوساط عربية تستشعر الخطر من انتصار التحالف الروسي- الإيراني في سوريا، وظهرت العديد من الاجتهادات التي ترى أن المواجهة مع المشروع يمكن أن تأخذ ثلاثة خيارات: خيار الحرب المباشرة في سوريا سواء كانت حربًا أمريكية، أو أمريكية إسرائيلية، أو خيار الحرب على الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أو خيار العقوبات الاقتصادية، التي أدركت معظم الأطراف المتضررة أن واشنطن مازالت أسيرة لها، سواء كانت العقوبات ضد إيران وضد حزب الله، أو حتى ضد روسيا نفسها، وهو خيار ضعيف لن يؤثر ولن يغير في المعادلة المفروضة، من هنا كان الاجتهاد الأبرز هو أنه إذا كانت الحرب المباشرة ضد إيران أو ضد إيران في سوريا لها حساباتها المعقدة بسبب خطورتها على المصالح الروسية وعلى العلاقات الروسية- الأمريكية المتوترة، وبسبب الأوضاع الأمريكية الداخلية المرتبكة مع الرئيس دونالد ترامب وإدارته، فإن خيار الحرب ضد الميليشيات تبقى الخيار الأرجح، أو على الأقل الخيار المؤقت انطلاقًا من قناعة مفادها أن تغيير قواعد اللعبة، وتعديل نفوذ طهران الإقليمي «يفترض أن يتم ميدانيًا أولاً أخيرًا»، وأنه «على واشنطن أن تغادر سلبياتها». هذا النوع من التفكير يستهدف إخراج واشنطن من الإطار الضيق لـ«حرب العقوبات» مع إيران وحلفائها لأنها ستؤدي إلى مزيد من التصلب الإيراني، وأنه لابد من تعديل توازن القوى الذي تسعى روسيا وإيران من أجل فرضه كأمر واقع، لكن السؤال: من أي ثغرة يمكن أن تبدأ المواجهة فى معركة «الحرب ضد الميليشيات» هل في العراق أم في سوريا أم في لبنان؟ استقالة الحريري، جاءت لتقدم الإجابة عن السؤال وهو أن لبنان، رغم كل التعقيدات، يبقى دائمًا الحلقة الأضعف في المواجهة، وهي الاستقالة التي أعلنها الحريري من الرياض بعد ساعات من لقائه أكبر ولاياتي كبير مستشاري المرشد الإيراني علي خامنئي، ويمكن وصفها بأنها «استقالة مربكة» لكل حسابات إيران وحزب الله، وأنها تستهدف نقل المعركة مع إيران إلى لبنان، وتوجيه ضربة استباقية إلى حزب الله قبل أن يعود إلى لبنان من سوريا ليقوم بتحصيل مردود انتصاراته.

استقالة قد تربك حسابات روسيا وإيران في مؤتمر سوتشي المنافس أو البديل لمؤتمر جنيف، وقد تكون مدخلًا لمواجهة إسرائيلية مع حزب الله في لبنان، لكنها يصعب أن تكون في ذاتها كافية لفرض معادلة توازن قوى بديل في سوريا، لكنها يمكن أن تؤسس لمثل هذه المعادلة شرط أن تتبناها واشنطن، وهذا شرط له حسابات أخرى أكثر تعقيدًا.