نادر الرنتيسي - النجاح الإخباري - كان شتاء جافاً، أما القصفُ فكان غزيراً على بغداد. وكانت ليلة كثيفة العتمة، وهي واحدة من ليالي حرب ثلاث وثلاثين دولة لإخراج رجل سيئ المزاج من الكويت، في العام الأول من العقد العاشر، من قرن لم تنقص فيه، حتى الآن، الأفعال الماضية. وخلفَ شمعة لم تكن معنيّة سوى بإنارة ورق “النوتة” الموسيقية، في منزل قليل الهواء في مدينة الحريّة البغداديّة، كان ملحّنٌ في نحو منتصف الثلاثين، لم تزد خطواته في الغناء عن أربع وراء الشطّ، يبدأ أسطورته بـ”قصيدة الحزن”.

وهذا كان اسمها في ديوان نزاريّ شهير على الأرصفة، هو “قصائد متوحّشة”. في الديوان أيضاً قصيدة “قارئة الفنجان”، تلك التي كانت سطر الختام في مجد عندليب مصر. والقصيدتان عن عاشق بريّ، يبحثُ عن حبٍّ أسطوري، وتنتهيان بقافية نونية، ومصير واحد “ليس لها عنوان”، و”لا تأتي بنت السلطان”. ملحّن الأغنية الخالدة هو “محمد الموجي”، والمغني السامرائي كان مريداً من بعيد لـ”معلّم الموسيقى”، فاختار “قصيدة الحزن”، ومن عاصمة الحزن، بدأ تلحينها على “المقام الموجيّ”، وكان بذلك يدندن بأول سطر في مجد “عندليب العراق”.

اشتدّ القصفُ في ليلة من الليالي الثماني والثلاثين، وظنّ “كاظم جبّار السامرائي” أنّه سيكون واحداً من نصف البغداديين الذين لن يروا نهار بغداد التالي، فجمع أوراقه الموسيقية، ولفّها بوصيّة للذي سيجد اللحن “أن يعطيه لمن يستحقه”، فالشاب الذي بدأ تجربته الحقيقية نهاية الثمانينيات كان مهجوساً بالخلود، وفي تلك الوصية كان يبدو أنه يريد إحياء المُغنّي بأنْ لا تموت الأغنية. لم يمت المغنِّي، وكان من نصف البغداديين الذين رأوا نهار بغداد تحت الغيوم السوداء، فنَذَرَ، وأوفى بعد سنوات بنذره، بأن وشَم مقدمة اللحن على صدره.

خرج “السامرائي” من بغداد الممنوعة من الحياة، إلى عمّان المحطة الضرورية، ثمّ إلى بيروت التي أوصلته إلى البحر. في حقيبته أغان خرجت سالمة من “شقاقه” مع عزيز الرسّام،

وأخرى كتبها “كريم” باللسان “العراقي” الصحيح، وقصائد مقتطعة من كتب “نزار” المحروسة قضائياً التي تحتاجُ إلى “إذن المؤلف”، وفي الزيارة الأولى إلى الشّام، كاسراً خصام “البَعْثَيْن”، طلب مساعدة الجمهور خلال الحفل، وفي كواليسه أعطته سيدة الرقم اللندنيّ للشاعر الشاميّ. العام كان الثالث في العقد العاشر، قبل وفاة الشاعر بخمس سنوات، وحين فُتحت كل العواصم للمغنّي الذي عرف في منتصف الحلم من أين يؤتى المجد.

المكالمات التي بلغت قيمتها ألفا جنيه مصري منتصف السبعينيات بين نزار و”حليم”، كانت أيضاً واحدة من ضرورات اكتمال “عندليب العراق”، فبدأ الشاعر الشاميّ مناقشة كل تفاصيل اللحن، وسماعه بصوت السامرائي وعوده، والاستجابة لرغبة الملحّن بالحذف والإضافة، فسقط أربعة وعشرون سطراً، كانت فيها بيروت “امرأة طاغية الإغراء”، وأضاف شطرين شجيّين في المقطع الانسيابيّ “ألمْلمُ من عينيكِ ملايين النجمات”. طلب المغنّي أن يكون عنوان الأغنية مختلفاً عن عنوان القصيدة، أجاب “نزار” أن مفردة “علّمني حبُّكِ” هي المتكررة، واقترح عنواناً فقيراً هو “في مدرسة الحب”، فسقطت ذبابة في صحن العسل.

“علمني حبّكِ أن أحزن”، يغنّي السامرائيّ في جرش، وبابل، وقرطاج، وتدمر، فتكبر عاصمة الحزن إلى حيث تصل أصداء “السوبرانو”. خشعتْ جدران قاعة ألبرت الملكية، وبرزت ملامح التقدم في العُمر على دار الأوبرا المصرية، ومالَ ضلع في بيت الدين على جبل لبنان. كانت “أغنية الحزن”، وربّما كان على “الشاميّ” أن ينصح “السامرائي” بهذا العنوان، فهي أغنية الجيل الذي دخَلَ إلى مدن الفراغ منذ أن كان شاهد عيان على سقوط بغداد.. عاصمة الحزن. وهي أيضأً “أغنيتي” فقد جربتُ كلّ وصاياها في العادات السيئة، وتعلمتُ منها الهذيان!